- السيرة / ٠3سيرة الصحابة
- /
- ٠2رجال حول الرسول
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
نصيحة لك أيها المسلم ينبغي أن يسمعها قلبك قبل عقلك :
أيها الأخوة الأكارم, مع الدرس الحادي عشر من دروس سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عنهم، صحابي اليوم سيدنا سالم مولى أبي حذيفة, ولهذا الاسم قصة تسمعونها بعد قليل، ولكن قبل أن نمضي في الحديث عن هذا الصحابي الجليل، يجب أن تعلموا أن أصحاب رسول الله ما استطاعوا أن ينشروا الإسلام في الخافقين إلا لأنهم عاشوا القيم الإسلامية، وحينمــا ترون المسلمين الآن يزيدون على ألف ومئتي مليون، وليست كلمتهم هي العليا، وليست إرادتهم هي النافذة، فيجب أن نستنبط أو يجب ألا نتهم الله في وعده بل نستنبط أن ديننا كأن القيم فرغت منه, وبقي شكلاً بلا محتوى، بقي مظاهر بلا مضمون، بقي طقوساً بلا مشاعر .
المرتبة العلمية التي حازها سالم مولى أبي حذيفة من رسول الله :
قصة اليوم لا تقل شأناً عن قصة الأسبوع الماضي، النبي عليه الصلاة والسلام أوصى أصحابه يوماً, فقال:
((خذوا القرآن عن أربعة: تلاوةً، وفهماً، وأحكاماً، ودراسةً ومعرفةً، ودرايةً، عن عبد الله بــن مسعود, وعن سالم مولى أبي حذيفة, وعن أبــــي بن كعب, وعن مــــعاذ بن جبل))
سـالم ممن شهد له النبي عليه الصلاة والسلام بأنه ماهر في القرآن، إلى درجة أن النبي أمر أصحابه أن يـأخذوا عنه، أن يتعلموا منه، إذاً: بـلغ مرتبة التفوّق في التلاوة والفهم .
النبي يأمر أصحابه الأجلاء أن يجلسوا أمامه, وأن يأخذوا عنه القرآن، أن يتتلمذوا على يديه، وأن يقتبسوا من علمه، وأن يستنيروا بنوره، قالوا: إنه عبد رقيق .
أرأيتم أيها الأخوة إلى مجتمع الطبقة الواحدة، أرأيتم أيها الأخوة كيف أن قيم الإسلام عاشها أصحاب النبي؟ أرأيتم أيها الأخوة كيف أن في الإسلام قيمتين فقط قيمة العلم والعمل، وما سوى هاتين القيمتين تحت الأقدام، عبد رقيق يأمر رسول الله أصحابه وهم من علية قريش أن يجلسوا أمامه متأدبين ليتعلموا منه القرآن .
من الذي رفع شأن هذا العبد الرقيق, وجعله سيداً من أسياد البشر؟ الذي رفعه الإسلام.
ما هي قيمة الشاب التائب عند الله ؟
أيها الأخ الكريم, العلم يرفعك، والقرآن يرفعك، وطهارتك ترفعك، وعفتك ترفعك، وورعك يرفعك، واستقامتك ترفعك، وتمثلك بالقيم الإسلامية ترفعك، كل إنسان يحب أن يكون ذا شأن، هذه فطرة، هذا شيء جبلنا عليه، تحب أن تأكل لتبقى حياً، تحب أن تتزوج ليبقى نوع البشرية، تحب أن تكون ذا شأنٍ، ليخلد ذكرك، هذا ميل فطري .
الإسلام، والقرآن، واتّباع النبي عليه الصلاة والسلام، هو الذي جعل هذا العبد الرقيق نقف أمام قصته متأدبين ونتحدث عنه مجلين مكبرين إنه سيدنا سالم مولى سيدنا حذيفة, كان رقيقاً وأعتق وآمن بالله وبرسوله إيمانا مبكراً, وتعقيباً على كلمة مبكراً، فأنا والله أُكبر الأخ الكريم الذي قَدِمَ إليّ صغيراً، وترعرع في بيت من بيوت الله، شيء رائع جداً أن تتعرف إلى الله وأنت غض العود، وأنت في مقتبل العمر، تشكل حياتك، تشكل علاقاتك، تختار أصدقاءك، تنتقي حرفتك، وتفهم مهنتك وفق الشرع, ووفق قواعد الدين، ووفق منهج رب العالمين .
لذلك ريح الجنة في الشباب، والنبي شجع الشباب ورفع من شأنهم حينما عين شاباً في سنهم قائداً لجيش فيه أبي بكر، وعمر, وعثمان، وعلي .
لذلك قالوا: من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة, يعني أنه جميل بالإنسان أن يتوب إلى الله مبكراً، لكن بالسبعين فقدت التوبة جمالها فقد أكل حتى مل الطعام، وما خلا منه محل، حتى مل النزهات، نفسه عزفت عن الدنيا، ليس غير الآخرة أمامه، لكنّ الأجمل من هذا، أن ترى شاباً يتقد حيويةً, يغلي نشاطاً, مقبلاً على الدنيا، كل شيء عنده جديد ، ومع ذلك يلتفت إلى الله عز وجل .
لذلك فالله جل جلاله يباهي الملائكة بالشاب التائب, يقول:
((انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي))
يعني استقامة الشاب على أمر الله تعدل عند الله استقامة ألف إنسان تجاوز الخمسين ثم استقام على أمر الله, لأن كل سن له ترتيب، كل سن له اهتمامات، لعلك تلاحظ أكثر الناس الذين أسرفوا في المعاصي في حياتهم بالخمسينات بدأ يصلي، واتجه إلى المساجد، طبعاً لأنه أزف وقت الرحيل، شيء طبيعي جداً، حينما أزفت الآزفة، حينما اقترب أجله، ومعترك المنايا بين الستين والسبعين, وهذا صار بالستين، تجده صار أميل للدين، أميل للمساجد, أميل للدروس, شيء جميل, لكن الأجمل وأنت في السابعة عشرة، في الثامنة عشرة, بالعشرين بالخامسة والعشرين تريد الله ورسوله، تريد معرفة الله, تريد إتقان القرآن، تريد أن يكون الله راضياً عنك، هذا شيء جميل جداً .
من هو سالم مولى أبي حذيفة ؟
من هو سالم مولى أبي حذيفة؟ أبو حذيفة تبناه، فلما نزل القرآن الكريم بتحريم التبني صار اسمه سالم مولى أبي حذيفة، كان اسمه سالم بن أبي حذيفة، فقد حّرم الله التبني، وبالمناسبة هذا العبد الرقيق لا يعرف من أبوه، وليس هذا يقدح في نسبه، لأنه أشتري من سوق العبيد، واشتراه رجل، فلا هو يعرف من أبوه، ولا أحد ممن حوله يعرف من أبوه, فلما نزل قوله تعالى في تحريم التبني، فإلى من ينسب إذاً؟ سيدنا أبو حذيفة, قال: هو مولاي، فصار اسمه سالم مولى أبي حذيفة .
كلكم يعلم أن هذا الصحابي الجليل آخى سيدنا أبي حذيفة وصارا أخوين في الله، وهذا ينقلني إلى ما كنت صبوت إليه من قبل أن كل أخ منكم لا بد له من أخ يكون وليه، يكون أخاه في الإسلام، وهو أخوه في الله، هذه الأخوة في الله لها معانٍ كثيرة، ففيها تعاون, وتفقد، ومواساة، وبث هموم، يعني معاونة على أمر الدين والدنيا أي أن أقل مرتبة أنه إذا غاب الشخص فهناك من يسأل عنه، هناك من يبلغ أن فلاناً اليوم ما جاء، فإذا تفقدناه يشعر بمكانته ، يعني أنا مصرٌّ على هذا الطلب، وهذا ورد في القرآن الكريم, قوله تعالى:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾
﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾
اثنان اثنان, قال تعالى:
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
مما يلفت النظر في سيرة هذا الصحابي أنه كان حجة في كتاب الله، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه أن يتعلموا منه وكان إماماً للمهاجرين من مكة إلى المدينة طوال صلاتهم في مسجد قباء .
مسجد قباء هو المسجد الذي في ظاهر المدينة، وهو الموقع الذي استقبل عنده أصحاب رسول الله من الأنصار المؤمنين قبل أن يروا رسول الله .
بلغ من التفوق في القرآن، ومن الورع والإخلاص، ومن حب النبي عليه الصلاة والسلام, حتى قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام:
((الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك))
يعني الإنسان يقاس بمن معه، هناك أتباع بلغوا درجة عالية جداً من الرقي، ومستوى عالياً من الفهم والإيمان، والتواضع والمعاونة، والوقوف في الملمات، والإيثار والتضحية, الإنسان لا يقاس أتباعه بعددهم بل بنوعيتهم، أحياناً تجد في ملعب كرة خمسة وثلاثين ألفاً، كلهم يهيج ويموج، لدخول كرة بالمرمى، فكان القيامة قامت، تعجب ما الذي حصل؟ ما هذا الذي جعل الناس يهيجون؟ وقع أربعون قتيلاً مرة في بعض المباريات, وينقلب الأمر إلى توحش أحياناً, قال تعالى:
﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً﴾
وهذا الذي أقوله لكم دائماً: واحد كألف وألف كأف، ربنا عز وجل وصف أهل الدنيا, فقال:
﴿صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾
شيء آخر, سيدنا سالم رضي الله عنه كان أخوانه المؤمنون, يقولون عنه: سالم من الصالحين, فالصحابة كانوا جميعاً يحبونه، حتى إنهم وضعوه من الصالحين .
إليكم موقف هذا الصحابي في هذه القصة الذي قر عين النبي له :
هذا الصحابي له مزايا، وبالمناسبة فأصحاب النبي عليهم رضوان الله، كل واحد منهم تفوَّق في ناحية، هذا في شجاعته, هذا في حلمه، هذا في حيائه، هذا في كرمه، هذا في إنصافه ، هذا في شدته في الحق، هذا في عفوه، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع كل الفضائل، لذلك خضعوا له .
أنت ممكن أن تجعل في مستشفى ثلاثمئة طبيب، وتختار واحداً منهم يكون مدير المستشفى، لكن إن لم يكن هذا المدير أعلى مستوى في العلم من كل الأطباء لا ينصاعون له، بل يتمردون عليه، الإنسان العالي يأبى أن يخضع للأدنى، فهل يمكن لإنسان يحمل شهادة عليا وتضعه تحت إمرة إنسان يحمل ابتدائية؟ طبعاً سيكشف حاله وقصوره وأن الفرق كبير جداً, النبي عليه الصلاة والسلام إن لم يكن كاملاً في كل النواحي لما أستحوذ على قلوب أصحابه، لذلك رحم الشاعر إذ يقول:
وأجمل منك لم تر قط عيني وأكمل منك لم تلد النساء
خلقت مُبرّأً من كل عيـبٍ كأنك قد خلقت كما تشاء
فسيدنا سالم كان جريئاً بالحق، وأحياناً الجرأة مهمة جداً، يعني الجرأة أحياناً ينتج منها خيرٌ كثير، هذه الجرأة بدت في قصة، وهي محور الدرس, وهذه القصة نموذجية، تبين عظمة الإسلام، وتبين عظمة هذا النبي العظيم .
فبعد أن فتحت مكة للمسلمين بعث النبي عليه الصلاة والسلام ببعض السرايا إلى ما حول مكة من قرى وقبائل، وأخبرهم أنه عليه الصلاة والسلام إنما يبعث بهم دعاة لا مقاتلين, وكان على رأس إحدى السرايا سيدنا خالد بن الوليد، وحينما بلغ خالد وجهته حدث ما جعله يستعمل السيف ويريق الدم، وقع أمر اقتضى أن يحارب سيدنا خالد مع أن التوجيه الذي معه ألا يحارب، والتوجيه خلاصته دعوة لا قتال .
يروي كتاب السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما سمع بهذه الواقعة اعتذر إلى الله عز وجل، وقال:
((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد))
كم في النبي من رغبة في حقن الدماء؟ كم عند النبي من رغبة في نشر السلام؟ كم كان حريصاً على حياة الناس؟ كم كان حريصاً على أن يحيا الناس بسلام؟ كم كان حريصاً على أن ينشر هذا الإسلام بالدعوة السلمية لا بالسيف؟ .
سيدنا عمر بن الخطاب فيما يروي التاريخ كان متألماً جداً من هذا الموقف، وبالمناسبة الصحابة مع عُلوّ شأنهم، ومع سبقهم، وتفوقهم, هل هم معصومون؟ لا ليسوا معصومين، لكن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم، والقاعدة الشهيرة: أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم بمفرده، لكن أمته معصومة بمجموعها .
كان سيدنا سالم مولى أبي حذيفة مع سيدنا خالد في هذه الواقعة, ولم يكد سالم يرى صنيع خالد حتى واجهه بمناقشة حامية، سيدنا خالد القائد، القرشي، البطل، العظيم في الجاهلية ، وفي الإسلام، ينصت مرةً إلى سيدنا سالم، عبد رقيق يناقش قائد جيش, وهذا القائد يصغي إليه، ويعتذر له, ويبين وجهة نظره تارةً, ويسكت تارةً، ويشتد في القول سالم، وسالم مستمسك برأيه يعلنه في غير تهيب أو مداراة، الإسلام سوّى بينهما، سوّى بين خالد وبين سالم، سالم عبد رقيق، وخالد من وجهاء قريش، لكن لا شك أن سيدنا سالم ما عارضه حباً في المعارضة, وفي زماننا المعارضة هي الهدف، إثبات وجود عملية إزعاج، عملية تحجيم، عملية تجريح، عملية كيد, عمليــة تفوق، يعني أهداف خسيسة جداً، الأهداف خسيسة لخساسة النفوس .
شخص قال لآخر: والله أنا أود أن أحضر المولد في هذا الجامع, قال له صاحبه: لِمَ؟ فقال له: والله القائم على المولد له خصومة مع فلان, فأنا كيداً لفلان سألبي دعوتــه، الله يعطيه العافية على هذه التلبية، تلبية هذه الدعوة فقط ليكيد فلاناً، دعوة عيد مولد من أجل المكايدة إنها مستويات متدنية جداً بالمجتمع .
أما القاعدة الأساسية, إذا عز أخوك فهن أنت، وما المانع؟ أنت في مجلس, وأخوك أنطلق بالحديث، أيده, من علامات الإخلاص القاطعة, أن المخلص لله دائماً يغلّب مصلحة المسلمين على مصلحته الشخصية، ففي اللحظة التي تغلّب فيها مصلحتك الشخصية على مصلحة المسلمين العامة فهذا دليل عدم إخلاصك، وهو دليل قطعي .
يروي التاريخ أن رجلاً جاء لسيدنا الصديق، إذ عرضت له قضية فأراد سيدنا الصديق أن يأخذ رأي سيدنا عمر، ألم يقل الله عز وجل:
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾
فقال سيدنا الصديق للرجل: أعرضها على عمر, يبدو أن عمر رفض الأمر من عنده وحسمه، فهذا الشخص صاحب الحاجة وقع في حرج شديد، وقع في غيظ شديد، فتوجه إلى سيدنا الصديق، وأراد أن يوقع بينهما, فقال له: الخليفة أنت أم هو؟ فأجابه إجابة رائعة, قال له : هو إذا شاء ولا فرق بيننا .
في أحد الغزوات تفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة, فقال أحدهم:
((يا رسول الله! شغلته البساتين, والظلال، والفواكه، فتصدى له صحابي آخر, و قال له: لا والله، ثم قال: والله يا رسول الله! لقد تخلف عنك أناسٌ ما نحن بأشد حباً لك منهم، ولو علموا أنك تلقى عدواً ما تخلفوا عنك، تبسم النبي عليه الصلاة والسلام، وفرح بهذا الدفاع))
يجب أن تدافع عن أخيك، أيغتاب أخ لك وتظل ساكتاً؟ أمعقول أن يأكل المؤمن مالاً ليس له؟ فالمواقف الانهزامية عديدة, وأنت تعلم علم اليقين أنه مستقيم، ونظيف، وبريء، وطاهر، وورع، وعفيف، فادفع عن أخيك المؤمن، من دون أن تخش بالله لومة لائم .
محور القصة :
الحقيقة أن هذه القصة مهمة جداً، فمركز القصة أو محورها، أو بيت القصيد فيها، أو مركز الثقل فيها، أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما بلغه صنيع خالد بن الوليد سأل, وقال:
((هل أنكر عليه أحد؟ فقالوا له: نعم راجعه سالم وعارضه، فارتاح النبي عليه الصلاة والسلام))
فلماذا أرتاح النبي؟ هل عندكم إجابة؟ نعم لا تجتمع أمتي على ضلالة، فلو سكت سالم لاجتمع القوم على ضلالة، وهذا يتنافى مع مجتمع المسلمين, لكن اليهود وصفهم الله عز وجل بأنهم:
﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ﴾
جيد، طبعاً الإجابة بالعكس، إذ كان أصحاب النبي يتناهون عن أي منكر فعلوه, لأنه وجد من بين أصحابه من لا يخافه، يعني النبي الكريم ربىّ أصحابه تربية المراجعة، تربية الجرأة, وتربية النقد البناء، وتربية عدم قبول الخطأ، وتربية إنكار المنكر, فلما رأى النبي أن أحد أصحابه راجع سيدنا خالداً ارتاح عليه الصلاة والسلام، يعني التربية صحيحة، أما لو ورباهم على الخضوع، رباهم على النفاق، لِما وجد من يناقش القائد .
الكتاب والسنة هما مرجعية المسلم في وضع المقاييس والموازين العلمية :
أما سيدنا عمر، والقصة معروفة عندكم، فقد كان بين أصحابه واحد أراد أن يتقرب منه بمدحه, قال له:
((والله يا أمير المؤمنين، ما رأينا أفضل منك بعد رسول الله, فسيدنا عمر نظر إليهم مغتاظاً، وتفرس في وجوههم واحداً واحداً إلى أن قال أحدهم: لا والله، لقد رأينا من هو خير منك, قال له: من هو؟ قال له: أبو بكر، فقال سيدنا عمر: كذبتم جميعاً وصدق, سيدنا عمر عد سكوتهم كذباً))
مجرد سكوتهم كذباً، قال:
((والله كنت أضل من بعيري, وكان أبو بكر أطيب من ريح المسك))
فأنت ممكن أن تربي أخوانك على الخنوع، والسكوت، وعدم الاعتراض، والنفاق، والمديح الكاذب، وممكن أن تربّي أخوانك على الجرأة, والنقد البناء، والمعارضة، بل يجب ألا تقبلوا شيئاً ليس مؤيداً بالدليل, وبهذا فالإسلام يعطي للناس مقياساً دقيقاً، يقيسون فيه الأمور وفق الكتاب والسنة, قال تعالى:
﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾
وعندنا دليل في كتاب الله تعالى, واقعية سيدنا الخضر مع سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام, فقد قبل الخضر منه واستمهله، والله عز وجل في هذه القصة يمدح سيدنا موسى، فلما عرف أنه ما فعله إلا عن أمر الله وبين الحكمة، سكت .
معناها أنت يجب أن تبنى بناء صحيحاً، بناء على أسس سليمة, بناء على موازين، على مناهج، على مقاييس، وليس السماع وتصديق كل شيء, لا، وهذا يؤكده قول النبي عليه الصلاة والسلام:
((إنما الطاعة في معروف))
هكذا كان أصحاب رسول الله، يتناصحون, والقاعدة أن الذي يمدحك لا يرقى بك، لكن الذي ينتقدك ويعارضك يرقى بك، ولا شيء يجعل المنحرف يزداد انحرافاً كسكوت من حوله, ونحن المسلمين ما عندنا اتباع أعمى, قال تعالى:
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾
اتباع أعمى ليس عندنا، بل الحق حق، والباطل باطل, والموازين واضحة، والموازين في الكتاب والسنة, قال تعالى:
﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾
أي إلى الكتاب والسنة .
إليكم المعركة التي استشهد فيها سالم وقدم روحه الزكية في سبيل إعلاء راية الإسلام :
انتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى, وواجهت خلافة الصديق مؤامرات المرتدين, وجاء يوم اليمامة، وكانت حرباً رهيبةً لم يُبتلَ الإسلام بمثلها, وخرج المسلمون للقتال، وخرج سالم وأخوه في الله أبو حذيفة, وفي بدء المعركة لم يصمد المسلمون للهجوم، وأحس كل مؤمن أن المعركة معركته، وأن المسؤولية مسؤوليته, وجمعهم خالد من جديد، وأعاد تنسيق الجيش بعبقرية مذهلة, وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم وتعاهدا على الشهادة في سبيل الدين الحق الذي وهبهما سعادة الدنيا والآخرة، وقذفا نفسيهما في الخضم الرهيب, كان أبو حذيفة, يقول وينادي:
((يا أهل القرآن, زينوا القرآن بأعمالكم))
هذه النقطة تحتاج إلى إيضاح، والقرآن كلام الله عز وجل، إن وجدته في مجتمع يتلى ولا يطبق, هل هذا يعني زيناه بأعمالنا؟ لا والله .
مثلاً, إذا رأيت في المحافظة مخططات للحدائق رائعة جداً, مساحات خضراء، أشجار الصنوبر، هنا ممرات، هنا بحيرات، هنا مدرج للمحاضرات، وهناك مجمع استهلاكي، إذا أنت وقفت في بناء المحافظة, ورأيت أشياء جميلة, وذهبت إلى المدينة، ولم تجد من ذلك شيئاً ، بل رأيت مجمع قمامة، وأمكنة خربة، فالفرق كبير جداً, لكن لو أن كل هذه المخططات التي رأيتها في المحافظة وجدتها في الواقع فعلاً مساحات خضراء، وحدائق جميلة, وشلالات، و طرق نظيفة، وأرصفة، إضاءة جيدة في الشوارع، كل شيء رأيته على المخطط رأيته في الواقع، فهذا يعني أن هذه الخارطة وهذا التصميم مزين بالواقع الجيد .
((يا أهل القرآن, زينوا القرآن بأعمالكم, وسيفه يضرب كالعاصفة في جيش مسيلمة الكذاب، وكان سالم يصيح هذا أبو حذيفة, أما سيدنا سالم, فقد قال: بئس حامل القرآن أنا، لو هوجم المسلمون من قبلي))
انظر الجمع بين تلاوة القرآن، وبين شجاعة الجنان, فقيل له :
((حاشاك يا سالم, بل نعم حامل القرآن أنت))
قال تعالى:
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾
وكان سيف هذا الصحابي الجليل جوالاً، صوالاً، في أعناق المرتدين، وهوى سيف من سيوف الردة على يمناه فبترها، وكان يحمل بها راية المهاجرين، بعد أن سقط حاملها زيد بن الخطاب، ولما رأى يمناه تبتر التقط الراية بيسراه، وظل يلوح بها إلى أعلى, وهو يصيح تالياً الآية الكريمة:
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾
أحياناً ترى أخاً على الرخاء شغله جيد، وأعماله، و صحته, وبيته كذلك، وفجأة فقد وظيفته، وتغير وضعه، يسأل: ماذا فعلت؟ معناها أنت مالك عبد الفتاح بل أنت عبد الفتح، الأمور ما دامت ميسرة فأنت راضٍ، لكن الله عز وجل امتحنك، البطولة أن تكون مقبلاً في الشدة لا في الرخاء, سيدنا سالم تلا هذه الآية, ثم أحاطت به غاشية من المرتدين فسقط البطل ، ولكن روحه ظلت تتردد في جسده الطاهر، حتى انتهت المعركة بقتل مسيلمة الكذاب، واندحار جيشه، وانتصار جيش المسلمين, وبينما المسلمون يتفقدون ضحاياهم وشهداءهم وجدوا سالماً في النزع الأخير يلفظ أنفاسه الأخيرة .
قصص وقعت في التاريخ تكاد تكون غريبة عن أذهاننا :
وفي التاريخ الإسلامي مشاهد يكاد العقل لا يصدقها، ثلاثة جرحى اسألوا طبيباً جراحاً إذا أجرى عملية لإنسان, وفقد جزءاً من دمه, يعني يصبح الماء أغلى عليه من روحه ، يطلب ماء كثيراً، كل إنسان أصابه نزف تنشأ عنده حالة عطش غير معقولة, فهؤلاء الصحابة الثلاثة، جاءهم شخص ليسقي الماء, فسأل أول شخص: هل لك بالماء حاجة؟ قال له:
((اسقِ أخي لعله أحوج مني، ذهب إلى الثاني, فقال له: اسقِ أخي لعله أحوج مني، فذهب إلى الثالث فرآه قد مات، رجع إلى الثاني فرآه قد مات، ثم رجع إلى الأول فرآه قد فارق الحياة))
وهذا غاية الإيثار, فهل هناك إنسان يؤثر غيره على نفسه وهو في النزع الأخير؟ هكذا ربى النبي أصحابه على المؤاثرة والتضحية .
لولا الصحابة الكرام لما انتشر الإسلام إلى الأفاق, لكن بأخلاقهم النادرة وبالقيم العالية لديهم رفرفت رايات الإسلام بعيداً في الآفاق, والله يا أخوان سأقول لكم كلمة:
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾
الناس لا يرغبون بجامعكم، ولا فيكم، بل يرغبون بأخلاقكم، أخلاقكم وحدها هي التي تؤكد حقيقة هذا الدين العظيم، لأن الدين ربّى أناساً أبطالاً، ربى أناساً أعفــة, ربى أناساً منصفين، ربى أناساً موحديـن، ربى أناساً متماسكين، ربى أناساً متبادلين، ربى أناساً يؤثرون على أنفسهم .
أخر كلمة تكلم بها سالم وهو في رمقه الأخير :
سيدنا سالم وهو في النزع الأخير, ماذا سألهم؟ وقبل أن أجيب نعرج على حادثة طعن سيدنا عمر قبل صلاة الفجر، طبعاً أغمي عليه إذ فقد جزءاً كثيراً من دمه، ثم إنه صحا من غيبوبته, قال:
((هل صلى المسلمون الفجر؟))
فما أهمه إلا شيء واحد, هل صلى المسلمون الفجر؟ سيدنا سالم وهو في النزع الأخير, قال:
((ماذا فعل أبو حذيفة طمئنوني عنه؟))
هناك صحابي جليل سعد بن الربيع تفقده النبي فما وجده، فسأل أناس يتفقدونه في ساحة المعركة، الذي كلفه النبي أن يتفقده رآه بين الموت والحياة, قال له:
((يا سعد, هل أنت بين الأموات أمْ بين الأحياء؟ قال له: والله أنا مع الأموات, ولكن أبلغ رسول الله وأقرئه السلام، وقل له: جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وقل لأصحابه: لا عذر لكم إذا خلص أحد إلى نبيكم وفيكم عين تطرف))
إنسان على فراش الموت، أو في النزع الأخير، على وشك مغادرة الدنيا، لا ينسى فضل النبي عليه .
فسيدنا سالم, قال: ما فعل أبو حذيفة؟
قالوا: استشهد .
قال: أضجعوني إلى جواره ـانظروا إلى صدق المؤاخاة ـ قالوا: إنه إلى جوارك يا سالم، لقد استشهد في المكان نفسه, وابتسم ابتسامته الأخيرة، ولم يتكلم .
لقد عاش سالم وأبو حذيفة معاً، وأسلما معاً، واستشهدا معاً, أما الشيء الغريب أن سيدنا عمر بن الخطاب، عملاق الإسلام الخليفة الراشد، ثاني الخلفاء الراشدين، يقول وهو على فراش الموت:
((لو كان سالم حياً لوليته الأمر من بعدي))
ما هو المطلوب من المسلم المعاصر ؟
أنا كل ما أرجوه منكم لكي نجعل هذا الدرس ذا فائدة، أن نحاول أن نطبق هذا الذي نسمعه فيما بيننا، نريد أن نعيش مجتمع الصحابة، بقدر إمكانكم أقيموا المحبة بينكم، والمؤاخاة ، والتضحية, والإيثار، والجرأة، لا تجاملوا بعضكم أبداً، لكن بأدب, تناصحوا من دون فضيحة بعضكم بعضاً .
فكل أخ ليكن له أخ، أخ حميم، عاونه في دنياه، في أخراه, إذا أحتاج إلى مال أقرضه , حتى نستدرّ عطف الله عز وجل علينا جميعاً، لأن يد الله مع الجماعة، ويد الله على الجماعة ، فالتناصح التناصح .
فهذه الدروس اجعلوها واقعاً ترقوا بها، وإذا جعلتموها معلومات سمعتموها، وقلتم: الدرس حلو, وكان ممتعاً، فهذا كلام فارغ, وصار الدرس عندئذٍ تسلية، أما إذا عشنا هذه المعاني, فلك صديق أو أخ فعاونه, والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .
إننا نريد مجتمع المسلمين، نريد أن نعيش مجتمع الصحابة، نحس أننا في مجتمع له قيم خاصة، قيم الدين, وطبقة واحدة, فلا أحد أحسن من أحد, كلكم لآدم وآدم من تراب، لا المال له قيمة عندنا، ولا الصحة، ولا الجمال, ولا الوسامة، ولا النسب، ولا الحسب، الإنسان قيمته باستقامته وعمله .
سيدنا سالم في الطبقة الدنيا من المجتمع، يعني أقل طبقة, هي طبقة العبيد، قال عمر:
((لو كان سالم حياً لوليته الأمر من بعدي))
هذا هو الإسلام .
نحن نريد مؤاثرة، تضحية، معاونة، وأن يحس الإنسان الذي يقبل على الجامع أن هذا الجامع بيت الله، وكل من فيه أحباب الله، لا حسد, لا ضغينة، ولا نقد، ولا استعلاء, ولا كبر، لكن هناك أشخاص قناصون ينتظر منك خطيئة، ومتى ما علقت فضحك, هذا مجتمع الذئاب، مجتمع المنافقين، مجتمع المنحرفين، إننا نريد مجتمع المسلمين, ونريد الإسلام واضحاً فيما بيننا .
الهدف الذي يرنو إليه أستاذنا النابلسي :
فنحن ما أردنا من هذه القصص التسلية، هي قصص ممتعة، لكن ما أردت منها إلا أن نجعلها نبراساً لنا، مفاهيم نطبقها في حياتنا
فهذان الصحابيان لبعد ألف وخمسمئة سنة، نقرأ سيرتهما, فيتعطر بهما المجلس, مجتمع القيمة الواحدة لا القيم العديدة، وليست قيماً مادية بل كلها قيم روحية، قيم أخلاقية, والنبي الكريم, يقول:
((الحمد لله الذي جعل في أصحابي مثلك))
هذا كلام سيدنا رسول الله، وسيدنا عمر, يقول:
((والله لو كان سالم حي لوليته الأمر من بعدي))
هذا الذي والله أتمناه، وكلما حرصنا على تطبيق هذه المواقف، وهذه السنن كلما ارتقينا عند الله .